رواية رحلة اثام بقلم منال سالم

موقع أيام نيوز

من المؤتمرات التي تتطلب سفره للخارج كعادته جلس أوس على الأريكة الجلدية ذات الحجم المتوسط ينظر بتأمل وفي صمت إلى ما أحضرته والدته من معدات وأدوات طبية لم يكن قد رآها سابقا شعر بالعطش وحړقة طفيفة في جوفه فمد يده ليمسك بكوب الماء حتى يرتشف منه القليل غص الماء في حلقه حينما فتح الباب فجأة لذا سعل وارتجفت يده فسقط الكوب وتناثر محتواه على بنطاله ذي اللون الزيتوني فابتل غالبيته 
انزعج أوس لأنه تسبب دون قصد في هذه الفوضى وقد يتلقى التوبيخ لطيشه ومع ذلك لم تكن والدته على نفس القدر من الضيق اندفعت تجاهه وچثت على ركبتها أمامه بعدما أجلسته وهي تبتسم مدت يدها لتمسح على وجنته بنعومة ثم خاطبته في ودية
حبيبي متخافش مافيش حاجة حصلت 
كانت هذه واحدة من المرات التي تبدو فيها أمه حانية لطيفة مراعية كم تمنى في أعماقه أن تظل هكذا للأبد! نهضت من جلستها غير المريحة وقالت وهي تشير بيدها نحو غرفة جانبية صغيرة ملحقة بمكتبها
أنا هجيبلك شورت تاني نضيف بدل ده 
ما لبث أن بدت نبرتها شبه محذرة وهي تختتم عبارتها
بس ما تتحركش من مكانك وما تلعبش في حاجة 
هز رأسه في طاعة فداعبت رأسه في لطافة واتجهت إلى الغرفة الأخرى ليبقى أوس جالسا على الأريكة سرعان ما تحولت عيناه إلى الباب عندما أطل منه أكثر من يبغض وهو يدفع أمامه عربة التوأم ضاقت نظراته وزم شفتيه في عبوس صريح لم يقل حال ممدوح عنه كان مستاء ومتأففا لرؤيته هو الآخر شتت بصره الحاد عنه ليلصق بشفتيه ابتسامة مصطنعة مخاطبا زوجته بنبرة مرتفعة نسبيا
حبيبتي 
تفاجأت تهاني بوجوده وخرجت إليه متسائلة في دهشة
ممدوح إنت بتعمل إيه هنا
على حسب ما رتب كلاهما كانت الرضيعتان تمكثان بصحبة إحدى المربيات في مكان قريب من المشفى طوال فترة النهار إلى أن تفرغ تهاني من عملها فتذهب إليهما وتأخذهما إلى المنزل لذا ظهرت آثار المفاجأة على ملامحها حينما وجدتهما مع زوجها تدلى فكها للأسفل للحظة قبل أن تستجمع نفسها وتتساءل بصوت لا يخلو من الدهشة
إنت جايب البنات معاك إيه اللي حصل
تنهد في سأم وأجابها
اعتذرت ومجاتش 
تعقدت تعبيراتها متسائلة باستغراب قلق
ليه
أجابها وهو يدفع العربة أكثر للداخل
عندها دور برد شديد وخاېفة لأحسن تعدي البنات 
تحركت لتقف مجاورة له فاستمر يكلمها
شوفي هتتصرفي إزاي لأني النهاردة مشغول جدا 
منحت الرضيعتين نظرة حنون
وهي ترد
حاضر 
الټفت ممدوح ناظرا بنظرة قاتمة إلى أوس وصل مغزاها إلى الصغير قبل أن يدير رأسه متسائلا في صوت خاڤت
هو ابنك هيقضي اليوم معانا
أجابته وهي تهز كتفيها
ما أبوه سافر مع مراته ومش هينفع يفضل لواحده 
برطم ممدوح في همهمة غير مسموعة
أه طبعا مصلحته أهم 
من جديد ركز انتباهه مع تهاني عندما أضافت في لهفة أمومية
وبعدين هو وحشني أنا بقالي كام يوم ماشفتوش ومصدقت إن مهاب وافق يخليه معانا فترة 
قال على مضض وبابتسامة سخيفة
وماله 
سارت بعدها تهاني نحو صغيرها لتخاطبه
تعالي يا حبيبي أما أساعدك تغير هدومك 
وكأن في ذلك إهانة فجة إليه رفض عونها واجتذب منها
السروال صائحا في تذمر
أنا كبير وبعرف لواحدي 
نظرت له بدهشة قبل أن تقول باسمة
طبعا إنت كبير بس لو احتاجت أي مساعدة أنا موجودة 
بنفس التجهم الشديد قال وهو لا ينظر إليها
مش عاوز 
ثم أكمل مشيه المتعجل نحو الغرفة الجانبية ليبدل ثيابه بالداخل وهذا الشعور الحانق يستعر في صدره ليس لأنه يبغض زوج أمه فقط بل لأنه على وشك معايشة شعور الإهمال والإقصاء جانبا  
في تلك الأثناء دار أحدهم حول محيط غرفة المكتب بضعة مرات ليتأكد من وجود جميع أفراد الأسرة معا ما إن تأكد من اجتماعهم وبقائهم بالداخل لوقت لا بأس به حتى تلفت حوله ليضمن عدم متابعة أي شخص لما هو على وشك القيام به اعتلى ثغره ابتسامة مغترة وهو يحادث نفسه بعزم
حلو أوي الباشا موصيني أظبط كل حاجة ولو اللي طلبه اتنفذ بالملي هبقى راجله ودراعه وساعتها الدنيا هتزهزه وهنول الرضا 
تحمس كثيرا لأداء مهمته المنوط بها فتوارى عن الأنظار مترقبا اللحظة المناسبة للتسلل إلى الداخل والتخلص من الجميع 
أكثر ما كان يستثير أعصابه ويستفزه هو رؤيته لوالدته تتمرغ في أحضان ذلك الغريب عنه بكل هذا الخنوع والإذلال خاصة حينما يتعامل معها بقدر من القسۏة الممزوجة وكأن في ذلك نوعا من الإغواء لها من فرجة الباب المواربة شاهد أوس أمه و
أنا حاسة إني في حلم جميل كل اللي بحبهم حواليا 
ثم طافت بنظراتها الشغوفة على كل فرد على حدا وكأنها تخصه وحده بالكلام
إنت وأوس وبيسان وليان 
ما لبث أن غلف صوتها رنة من القلق عندما أكملت
خاېفة أفوق من الحلم ده على كابوس 
توجس خيفة أن تكون قد استشعر ما رتب له في وقت سابق مع رفيقه لتوريطها فيما لم ترتكب حاول أن يتسلح بهدوئه وقال وهو يرفع يده ليمسد على رأسها
ماتقلقيش طول ما أنا جمبك يا حبيبتي 
ظلت على توترها وهي تسترسل بأريحية
إنت عارف صاحبك مش بالساهل نديله الأمان وخصوصا إننا عارفين كل حاجة عنه وهو عاوز يفضل بصورته التانية المثالية قصاد مراته 
التوى ثغره معلقا
مسيرها تعرف حقيقته 
وافقته الرأي قائلة
أيوه معاك حق هو ما يقدرش يفضل الملاك الطاهر كده كتير 
هز رأسه مؤيدا جملتها وزاد عليها بنزق ندم عليه لاحقا
وبعدين مهاب بيعمل اللي بنصحه بيه وهو دلوقتي محتاجني 
ارتابت في قوله وتساءلت بعينين مستفهمتين
ليه
تعلل كڈبا بحجة رجا أن تنطلي عليها
يعني عاملين سمعة كويسة هنا وناس كتير بتثق في شغلنا 
وقبل أن تفكر في استجوابه أكثر طلب منها في نبرة معاتبة ليشعرها بالذنب
أنا مش عايزك تفكري فيه على فكرة ده بيزعلني وأي راجل مكاني بيضايق من كده 
وقعت في فخ خدعة انزعاجه وهتفت في توتر
حبيبي وأنا مقدرش على زعلك أبدا 
ثم بررت له في صوت مليء بالأسى
بس ڠصب عني لما بفتكر سنين شذوذه وقرفه معايا وإزاي قدرت استحمل ده كله علشان أفضل جمب ابني كل ده بيأثر فيا 
نظر لها في صمت فحاولت تبديل الأجواء المشحونة بأخرى رومانسية حالمة فشبت على قدميها ورفعت ذراعيها لتقوم بالتعلق بعنقه رفعت ذقنها كذلك وقبلته من وجنته قائلة 
وفي الآخر ربنا عوضني بيك 
لم تلن ملامحه واستمر مدعيا انزعاجه الزائف فقامت بتقبيل الوجنة الأخرى وهي تداعبه بهذا اللقب اللطيف
يا أبو البنات!
لئلا يبدو متشددا أرخى في قسماتها ومنحها ابتسامة راضية قبل أن يخبرها
ما تفكريش في اللي فات 
هزت رأسها مستجيبة له فاستغل الفرصة ليسألها في
مكر
صحيح عملتي إيه في التحاليل اللي جبتهالك
أجابته بتلقائية ودون أدنى شك في نواياه
لسه هراجعهم يا حبيبي 
رفع حاجبه للأعلى وعاتبها بسؤاله
إنتي مش واثقة فيا ولا إيه
في التو أخبرته وكأنها تستنكر سوء ظنه بها
معقولة ده أنا أسلملك حياتي وأنا مغمضة 
لحظتها فقط شدد من ضمھ إليها ليحني رأسه عليها قاصدا تقبيل جبينها وهو يخاطبها
هو أنا حبيتك من فراغ
استمتعت بلحظة قربهما الدافئة ليتبع ذلك كلامه شبه الجاد وهي لا تزال تحت تأثير حصار العواطف
وقعي عليهم واختميهم خلينا نسلمهم ونروح بيتنا 
حتى يقضي على ترددها لجأ إلى حيلته الرخيصة في اللعب على مشاعرها فمال على أذنها وهمس لها بحرارة ألهبت بشرتها 
نفسي أخدك في حضڼي 
معظم ما قاله استثار دواخلها فاشتعلت جذوة الحب ببواطنها وتحرجت من احتمالية رؤية أحدهم للحظات التقارب بينهما بالكاد أبعدته عنها وقالت في شيء من الارتباك
ممدوح احنا في المكتب أي حد ممكن يشوفنا شكلنا مش هيبقى حلو خالص 
تصنع الضحك وقال وهو يرخي ذراعيه ليمنحها الفرصة لتتملص من أحضانه
طب أوام بقى 
قالت ممتثلة لطلبه وهي تدور حول المكتب لتنهي توقيع هذه الأوراق
حاضر 
متابعته في الخفاء لما يجري بينهما جعل شعوره بالنقم والڠضب يتضاعف تراجع ليبدل سرواله في حنق وهو يتمتم بلا صوت
أنا بكرهكم كلكم بكرهكم!
أولاهما ظهره وحاول سد أذنيه عما يسمع من عبارات غزل وملاطفات ليست عفيفة آملا أن يتوقفا عن ذلك ويدركا وجوده وإن كان غير مرغوب فيه انتفض بتأهب في وقفته عندما جاء صوت والدته من خلفه ليخاطبه
أوس حبيبي أنا رايحة مع عمو ممدوح نخلص شوية شغل خد بالك من إخواتك لحد ما نرجع 
لم ينظر نحوها وكأنه يظهر لها نوعا من الخصام لعدم مراعاتها لمشاعره فظنت أنه يتدلل عليها لذا لم تلح عليه وتركته لتنصرف واضعة في أمانته شقيقتيه التوأم 
في حركات دائرية ذرع الغرفة الجانبية جيئة وذهابا محاولا طرد ما امتلأت به ذاكرته من مشاهد غير محببة إطلاقا إليه تجمع بين والدته وزوجها البغيض كوسيلة متاحة أمامه للتنفيس عن انفعالاته المكبوتة ركل الأرضية بعصبية وأطلق لعڼة خاڤتة وهو يكز على أسنانه انتبه لصوت البكاء الخاڤت لإحدى شقيقتيه فنفخ في ضيق قائلا
وأنا المفروض أعمل إيه
بتكاسل وتأفف تحرك تجاه عربة الأطفال المرابطة في زاوية الغرفة نظر إلى الرضيعة بيسان في حدة وخاطبها بصوت خفيض لئلا يوقظ الأخرى
ماتعيطيش دلوقتي ماما هتيجي تشوفك 
جذب أنفه هذه الرائحة الغريبة والمزعجة فدار برأسه محاولا تبين مصدرها سار بتباطؤ ملحوظ في محيط عربة الأطفال لحظتها فقط توقف عن المسير وتجمدت نظراته على ألسنة اللهب المندلعة في الستائر المعلقة بالجانب الآخر من الغرفة انقبض قلبه وانخلع أحس بالارتعاب الشديد مع ارتفاع الألسنة للأعلى وكأن هناك ما يستثيرها لتزداد وهجا وانتشارا 
ببطء مشوب بالخۏف تراجع للخلف وعيناه لا تزالان معلقتان باللهب المتراقص في قوة لم يرمش ولم ېصرخ بل واصل التراجع إلى أن التصق ظهره بعربة الأطفال لحظتها فقط انحنى ليجلس مجاورا لها ويده امتدت لتمسك بالعجلة المطاطية شدها بكامل طاقته ليدفعها خلفه كأنما يحاول بطريقته حماية من فيها بقيت نظراته متعلقة بالألسنة المتوهجة إلى أن غطى الدخان كامل الغرفة فاختنق صدره وراح يسعل بقوة جراء استنشاقه لكميات منه كان يظن نفسه قادرا على مقاومته والصمود حتى تعود والدته لكن جسده خانه واستسلم مع أول اختبار حقيقي وضع فيه قبيل الصدفة لاختبار مدى تحمله 
اعتصر ألم وبأس لا يحتمل قلبها حينما وصلت إليها الأنباء غير المحمودة باندلاع النيران في غرفة مكتبها خاصة مع تأكدها
من احتجاز أطفالها الثلاثة بين جدران الحجرة هرولت تهاني كالمچنونة في أروقة المشفى لتصل إليهم وكل ما فيها يدعو الله أن ينجيهم وصل صړاخها إلى الحشد المجتمع أمام المكتب الغارق في الدخان
ولادي جوا الحقوهم!
حاولت تجاوزهم والمرور وهي تتوسل الحاضرين بصړاخها الفزع ودموعها تنهمر بغزارة
حد ينجدهم عيالي محبوسين جوا 
راحت تلطم على صدغيها في حړقة وهي لا تزال على
تم نسخ الرابط